كتبه/ محمد خلف
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فَمما يجدر أن يستصحبه العبد في سيره إلى ربه -سبحانه وبحمده- أن يعلم أن ما أمر به ونهة عنه هو مِن خالقه -سبحانه وبحمده-، العليم الخبير، قال الله -تعالى-: (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (الملك:14).
قال ابن القيم -رحمه الله-: "وهذا مِن أبلغ التقرير، فإن الخالق لا بد أن يعلم مخلوقه، والصانع يعلم مصنوعه، ويعلم ان ما أمر به هو لحكمة قد يعلمها وقد لا يعلمها، ولكنه يَوقن بحكمة ما أمر به؛ لأنه من حكيمٍ حميدٍ، كما قال -تعالى- عن كتابه: (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (فصلت:42).
قال السعدي -رحمه الله-: "(تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ): في خلقه وأمره، يضع كل شيء موضعه، وينزله منازله. (حَمِيدٍ): على ما له مِن صفات الكمال، ونعوت الجلال، وعلى ما له مِن العدل والإفضال، فلهذا كان كتابه، مشتملًا على تمام الحكمة، وعلى تحصيل المصالح والمنافع، ودفع المفاسد والمضار، التي يحمد عليها".
وإنها لرحمتك في الدنيا والآخرة كما أخبر -سبحانه وبحمده- عن نبيه -صلى الله عليه وسلم- فقال -تعالى-: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء:107).
وإن إرساله رسوله إلينا هو محض فضل، ومِن مَنِّه -سبحانه وبحمده- كما قال: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) (آل عمران:164).
فهي لتزكيتك وتطهيرك من الشرك، ومن الذنوب والمعاصي، والرذائل والنقائص؛ لتنقلك مِن ذل وتبعية الشهوات والرذائل إلى الطهر والعفة والإحسان، وصالح الأخلاق؛ فعليك أيها الكريم أن تنظر لهذا الأمر أولًا نظرة شكر وامتنان لربك الكريم الذي اصطفاك وفضلك، كما قال -تعالى-: (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (الحج:78).
قال السعدي -رحمه الله-: "( هُوَ اجْتَبَاكُمْ) أي: اختاركم -يا معشر المسلمين- من بين الناس، واختار لكم الدين، ورضيه لكم، واختار لكم أفضل الكتب وأفضل الرسل، فقابلوا هذه المنحة العظيمة، بالقيام بالجهاد فيه حق القيام، ولما كان قوله: (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ) ربما توهم متوهم أن هذا مِن باب تكليف ما لا يطاق، أو تكليف ما يشق، احترز منه بقوله: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) أي: مشقة وعسر، بل يسره غاية التيسير، وسهله بغاية السهولة، فأولًا ما أمر وألزم إلا بما هو سهل على النفوس، لا يثقلها ولا يؤودها، ثم إذا عرض بعض الأسباب الموجبة للتخفيف، خفف ما أمر به، إما بإسقاطه، أو إسقاط بعضه.
ويؤخذ من هذه الآية قاعدة شرعية، وهي: أن "المشقة تجلب التيسير"، و"الضرورات تبيح المحظورات"، فيدخل في ذلك من الأحكام الفرعية شيء كثير معروف في كتب الأحكام" (تفسير السعدي).
وكذا ما حرَّم عليك إلا ما فيه ضررك وإفسادك، ولو وجد فيه بعض النفع الدنيوي، ولكن لغلبة جانب الضرر والإثم حرمها الله -تعالى- كما في الآية: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا) (البقرة:219).
وكذا احل لك الطيبات وحرم الخبائث عليك، و يأمرك بالمعروف وينهاك عن المنكر، وأتى بدين سمح يسير ليس فيه مِن الثقل والشدة التي كانت بشرائع من قبلنا، كما في صفة نبيه -صلى الله عليه وسلم- قال عنه -تعالى-: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الأعراف:157).
ويعلم العبد أيضًا أن الله -تعالى- غني عنك، لا ينتفع بطاعتك، ولا يضر بمعصيتك، قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) (فاطر:15)، فنحن العباد المحتاجون على الحقيقة لطاعة ربنا -سبحانه وبحمده- واجتناب سخطه.
نحتاج أن نحب الله، وأن نرجوه وأن نخافه، وأن ندعوه ونتذلل إليه، نتوكل عليه وأن نستنصر به، وأن نستغفره، وأن نتوب إليه، نحتاج أن نصلي لنرتاح بالصلاة وتسكن بها نفوسنا.
نحتاج أن نصوم، وأن ندعو، وأن نتصدق وأن نحج، أن نبر والدينا، أن نصل أرحامنا، أن نحسن إلى جيراننا، وأن نتصدق، وأن نغض أبصارنا، ولكل عبادة من هذه العبادات لذة وحلاوة يجدها المؤمن في قلبه، تثمر لذة أنس وسكينة، وسعادة وراحة، وهذه هي جنة الدنيا، والسبيل لنيل جنة الآخرة، ولكن تحتاج إلى بعض المجاهدة والدعاء والصبر لتنال لذه هذه العبادة.
قال ابن القيم -رحمه الله-: "ولا يزال العبد يعاني الطاعة ويألفها ويحبها حتى يرسل الله -عز وجل- عليه الملائكة تؤزّه إليها أزًّا، وتحرّضه عليها، وتزعجه مِن فراشه ومجلسه إليها، فلو عطل المحسن الطاعة لضاقت عليه نفسه والأرض بما رحبت، وأحس نفسه أنه كالحوت إذا فارق الماء حتى يعاودها فتسكن نفسه وتقر عينه.
أما إعراضك عن الاستجابة لطاعة الله -تعالى- فينقلك مِن ضيق إلى ضيق كأنك تشرب ماء البحر لترتوي فلا تزداد إلا عطشًا، كما قال ربنا -تعالى-: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) (طه:124).
فادنو أيها الحبيب، وعد وتب إلى ربك، وأبشر، فالله يحب التوابين ويفرح بتوبتهم مع غناه عنهم -تعالى-، وعليك بالمجاهدة وأبشر، فالله -تعالى- يقول: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (العنكبوت:69).